البيتوتية القاتلة!

 










ما أحسن الجلوس في البيت، وما أقبح كثرته!

لو حوّل الإنسان بيته إلى فردوس من الراحة والأنس، يلاعب أطفاله ويحادث أهله، لما أغناه كل ذلك عن الخروج والتنزه الذي تحتاجه نفسه البشرية.

جرب الكثير منا، إن لم يكن كلنا، الحجرَ الصحيَّ قبل سنوات، وثبت لنا يقينا أن الإنسان، بما أودعه الله فيه من حب التغير وسآمة التكرر، محتاجٌ إلى وقتٍ يقلب فيه طَرْفَه في السماء، أو في الأرض، أو في وجوه العابرين، أو ليقعد شابكا يديه فوق رأسه يتأمل أي شيء في الطبيعة!

يتجلى ذلك الاحتياج في قصة أبي الأسود الدؤلي عندما أسن وكبر، وكان مع ذلك يركب إلى المسجد والسوق ويزور أصدقاءه، فقال له رجل: يا أبا الأسود، أراك تكثر الركوب وقد ضعفت عن الحركة وكبرت، ولو لزمت منزلك كان أودع لك. فقال له أبو الأسود: صدقت ولكن الركوب يشد أعضائي، وأسمع من أخبار الناس ما لا أسمعه في بيتي، وأستنشي الريح، وألقى إخواني، ولو جلست في بيتي لاغتمّ بي أهلي، وأنِسَ بي الصبيّ، واجترأ عليّ الخادم، وكلمني من أهلي من يهاب كلامي، لإلفهم إياي، وجلوسهم عندي، حتى لعلّ العنز أن تبول عليّ فلا يقولُ لها أحدٌ: هُس! (الأغاني 12/301).

ويكاد يكون السبب الرئيس في اضطراب أمزجة الكثيرين هو طول البقاء في المنزل، فعلماء النفس يرون أن الإنسان لكي يضمن سلامته الصحية يحتاج للخروج من المنزل بشكل دوري إما مع الأصدقاء أو لوحده في نزهة قصيرة.

قد يقول قائل فأين مكانة العزلة وأهميّتُها إن كنتَ تدعو إلى الخروج والخلطة؟! أقول له إن العزلة أوسع معنًى من المكث وحيدا في مكان مغلق، كما قد يتبادر إلى الذهن أول وهلة. فقد يعزل الإنسان نفسه على شاطئ أو فوق جبلٍ صغير أو في الصحراء. فيتأمل أو يتفكر أو يقرأ. فهو بذلك قد اعتزل بعيدا عن البيتوتية القاتلة!

ثم قد يقول: وما الفرق بين العزلة في الشاطئ والجبل والعزلة في البيت؟ أقول إن مجرد خروج الإنسان وانتقاله من مكان إلى آخر يحقق له أشياء لن تتحقق لو بقي منعزلا بين الجدران الأربعة، ولو كان معه كل أسرته وجيرانه.

وإذا ذكر لي التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي، فما هي إلا أوهام يوهم الإنسان بها نفسه أنه مختلط بالناس. فهو السجين الذي يأتيه أصدقاؤه وأهله بانتظام، يتحدثون معه في كل شاردة وواردة. أكان مجيئهم ذاك يغنيه عن الخروج؟!

ولو كان في ملازمة الدور والتشبث بالجدران خيرٌ، ما عذّب الإنسانُ الإنسانَ بالسجن. ولو أن في المكث في المكان الواحد نفعٌ، ما اخترع الإنسان للإنسان القيود والسدود والحدود!

ولا بد لأي بيتوتيّ يبحث عن التوازن أن يغادر منزله لتنفيذ مهام نفسية أو اجتماعية مطلوبة منه. ففي الأفق ما ليس الحائط، وفي السماء ما ليس في السقف، وفي الطبيعة ما ليس في البيت!

ولا يظن ظان أنَّ الأمرَ أوضحُ وأيسرُ من الحديث عنه، فهو وإن كان كذلك بالفعل، إلا أنه بات أمرا أشبه بالظاهرة، خاصة مع وجود من يدعون لذلك ويذكرون البيتوتية في سياقات الحمد والثناء والتبجيل والتقديس.

قد تظن أنني ضد "الروتين"، ولكن قد تتفاجأ إذا قلت إن الروتين كلمة ظُلِمَت كثيرا من خلال وضعها غالبا في سياقات التكرار والملل البلادة. لكن الروتين هو المرادف لكلمة "النظام" في حالات كثيرة.

الذي يعنينا من هذا عند الحديث عن البيتوتية، أن هناك فرقا كبيرا بينها وبين الروتين. فروتين المرء ونظامه لا بد له من بقاء في البيت مرة وخروجه منه مرة أخرى.

وفي خروجك وتنويع المشاهد التي تتعرض لها مادة للحديث والسمر والكتابة. وفي طول المكث في البيت دورانٌ حول نفس والفِكَر، وتكرار لذات الأحاديث والصور.

ما أجمل الذي ينزوي ويعتزل في بيته بين الكتب يقرأ فيها، ولكنه مع ذلك يكون كما قال علي الطنطاوي واصفا أخاه عبد الغني: "فكأنه مصباحٌ قويّ في غرفة مغلَقة، نوره شديد ولكن لا يجاوز جدرانها!". (ذكريات الطنطاوي 6/135).

"وقيل لكثير عزة: يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عسُر عليك الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المحيلة والرياض المعشبة. فإن نفرت عنك القوافي وأعيت عليك المعاني، فروّح قلبك، وأجِمّ ذهنك، وارتصد لقولك فراغ بالك وسعة ذهنك، فإنك تجد في تلك الساعة ما يمتنع عليك يومك الأطول وليلك الأجمع". (العقد الفريد 6/176).

لا يظن ظان أنني أدعو إلى الخروج من الهدوء إلى الضجيج، وإنما على الكعس من ذلك تماما؛ فأنا من دعاة الهدوء. ولكن ليس الهدوء محصورا في الاعتزال، فقد تضج بالمعتزل الذكريات المؤلمة، أو الهموم المقلقة، فيكون دواؤه حين ذاك الخروج إلى المجتمع والمحادثة والمخالطة. فأي هدوء في البيتوتية التي تزعجك بالأصوات المتداخلة، والتفكير فيما فيه كنا وإليه نعود!

وإذا نظرنا في ثقافتنا العربية القديمة، وجدنا أن الأدباء كانوا يتخذون من الأسواق مجالس للحديث، ومن كثبان الرمل "مقاهيَ" للسّمَر، فيتبادلون الفِكَر ثم يعودون إلى خلواتهم للقراءة والكتابة والتأمل؛ فالخلوة في الدار لم تكن قيدا ما داموا قد زاحموها بالخروج بين الفترة والأخرى.

وإذا نظرنا إلى غير الثقافة العربية، وجدنا أن في كثير من تلك الثقافات فكرة الخروج من الأديرة والمعابد إلى التأمل في الطبيعة ومناجاة القمر والنجوم.

وخلاصة القول: الإنسان اجتماعيٌّ بطبعه، والأصل فيه الخلطة ولقاء الناس. ولا تُحمَد العزلةُ إلا إذا كثرت الخلطة وعادت بالضرر النفسي والفكري على صاحبها. فهناك ينفع الإنسان أن يختلي بنفسه، فيقدح فِكرَه، ويرتّب أمرَه. ولكن إذا انقلب ذلك الأصل، وصار الإنسان انعزاليا بطبعه، أو بيتوتيا، فهناك ينطفئ بانطفائه مصباح من مصابيح الحي، وتضطره الحياةُ للخروج منها!

وإني لأزجي الهمَّ عند احتضاره **   بعوجاءَ مرقالٍ تروح وتغتدي!










*

إرسال تعليق (0)
أحدث أقدم