العلم زمن الوفرة (مقامة)

 

 


قرأنا وقرأتم في الكتب أن العلمَ شائكٌ طريقُه، بائسٌ صديقُه، بؤسَ من عنّاه السَّفَر، وأمضّهُ السَّهَر. يسافر طالبُهُ من بلدٍ إلى بلد، بلا صاحبةٍ ولا ولد، غيرَ القراطيسِ في رحاله، والبلوى على حاله!

 

ثم يأتي زمانٌ لا مَحَالَة، يغيّرُ اللهُ فيه حالَه، فيرى أنَّ التعبَ قد ذهَب، والمقرَّ قد استقر، فانفرجت شدّتُه، وابتهجت مهجتُه، ولقي من حسنِ المآل، أنْ أقعدَهُ الناسُ للسؤال، فصاروا يسألونه ويعظّمونه، بعد أن كانوا يهملونه ويلومونه!

 

فأتى الآن زمانٌ عجيبٌ عجيب، وأمرٌ غريبٌ غريب، فرأينا ورأيتم من الأمور أبغضَها، ومن الجهالاتِ أعرضَها، على أن العلمَ اليومَ قد كثُرَ كثرةَ الهواء، وصار الناسُ كلُّهم في أخذه سواء، إلا أنهم تركوه للجهالة، واحتقروه احتقار الحَجّاج لِتَبَالة، وانثنوا إلى ما سواه من كل تافهٍ مرذول، وسافلٍ مخذول.

 

فقد بانَ فجأةً طريقُ المعارف، فإذا الجميعُ به عارف! وإذا الذي أدلج، أصبح في صبحٍ أبلج! فما للعلوم أعطت قيادَها؟ وصار الجميع أولادَها؟! أعندما تكشّفَتْ خوافِيها، زهد الكثيرُ فيها؟

 

‏ليت شعري ما لها ذلّت بعد طول امتناع؟ فَغَمَرَتِ الأبصارَ والأسماع؟ وقد كانت واللهِ البحرَ الخِضَمّ، والجبل الأشَمّ. فما لهم عنها يرغبون، ومنها يهربون؟

 

علامات استفهام: أليست لهم العقول والأفهام؟ إن كانوا كذلك فلستُ أطلبُ من أهلِ الجنونِ أن يهتمّوا بالعلوم والفنون.

 

أليس لهم الوقت؟ إن كان هذا فكيف وجدوه للهواتف، ولم يجدوه للمعارف؟!

أليس لهم المال؟ بل المالُ كثير، ولا يأخذُ منه العلمُ إلا اليسير؛ بل قد رأينا من كثيرٍ من الفقراء، أكابرَ العلماءِ والقرّاء، لم ينفقوا على العلم إلا نيةً صادقة، وهمةً سامقة.

 

أليس لهم القدرةُ الجسمانية؟ بل نحن واللهِ أرفهُ من الأوّلين أعضاءً، وألطفُ أجواءً، في نعمةٍ زائدة، ودورٍ باردة، وأرائكَ وثيرة، ووسائلَ كثيرة، لكنّنا غثاءٌ وزبَد، والعلمُ لا يُنال براحة الجسد. وهم واللهِ قد أنفقوا القدرة الجسمانية، وحقّقوا أسمى نية، فنالوا المراد، ونفعوا أنفسَهم والعباد.

 

فكرتُ وما زدتُ إلا حَيرة، وعناءً وغَيرَه، ولو أني وجدتُ المقالَ الكافي، والجوابَ الوافي، لأهديتُهُ إليكم، والسلام عليكم!


*

إرسال تعليق (0)
أحدث أقدم