ليست المعاصرةُ فقط هي التي تنفي
المناصَرَةَ، كما يقال. بل حتى التشارُكُ في المكان ينفي المناصرَةَ أحيانا، بل في
كثيرٍ من الأحيان.
فتجدُ الإنسانَ يَزهَدُ في أشياءَ لا
لكونها معاصرةً له، أو لأنها أشياءُ حادثةٌ لم تكتسبْ بَعْدُ جَلالَ القِدَم وعبقَ
الماضي ومكانةَ التليد، بل فقط لأنها (محلية)!
وكما أن الناس قد يزهدون في المعاصر
لأنه عاصرهم، فإنهم كثيرًا ما يزهدون في المجاور لأنه جاورهم، ولأنهم لم يجدوا
بينهم وبينه حاجزًا من بُعْدٍ أو غربةٍ أو دهشة!
وليت الأمرَ وقفَ عند تلك المنتجات
المادّيّة والتجارية، بل تمتد تلك الحالةُ من عدم المناصَرَةِ لتصل إلى أشخاصٍ
وأفكارٍ وكتبٍ وتراثٍ، لا لشيء سوى أنها وُلدت في مكانٍ قريبٍ مألوف؛ فأصبح الناسُ
لا يرونها -لقربها منهم- تستحقّ ما يستحقه ذلك البعيدُ الذي وراء البحر!
أم أبي حنيفةَ لم تزهد في علمه ولم
تفضِّلْ عليه غيرَه من العلماء ممن هم دونَه بسبب المعاصَرَة؛ فقد كانت تستفتي،
بطبيعة الحال، علماء آخرين كانوا في نفس زمان ابنها. بل إن زهدَها لأسباب أخرى من بينها أنها كانت تراه كل يوم،
وتألفه، وتسمع صوته لا في العلم وحدَه، بل في البيت، وفي السوق، وفي الحديث العابر. فوجدت تلك العجوز من قلة الثقة في ابنها ما وجده
ذلك الذي قال "زامرُ الحيِّ لا يُطرب"!
ومما هو شائعٌ لدى الناس قولهم:
"أزهدُ الناس في عالمٍ أهلُهُ وجيرانُه"، ويتبين هذا من قصصٍ كثيرةٍ
كالذي ذَكرتُ من حال أم أبي حنيفة. وقد زاد علي الطنطاوي وقال: "العالِمُ
أزهدُ ما يكون في تعليم أهلِهِ وجيرانِه، وربما حرصَ على تعليم التلاميذ وشرحِ
الجوابِ للسائلين ما لا يحرصُ مثلُه على تعليمِ ولدِهِ وإجابتِهِ أسئلتَه".
ولكن لأن "الشيءَ لا يُستغرَبُ
من مَعْدِنِه" أو لأن "الشيءَ يُستغرَبُ من غير مَعْدِنِه"، كان من
طبائع الإنسان تَوقُهُ إلى الطُّرْفَةِ والنادرة، وَمَيلُه إلى كلِّ غريبٍ من غير
عالَمِه، وولَعُهُ بما لا يملك، وإهمالُه لِما يملك، وزُهدُه في جاره، ودَهَشُهُ
بالقوى الخارقة، بل حتى استعذابُه للَّقاء حين يكون "من دون ميعادِ"!
إذا
لم يكن الأمر كذلك، فما سرُّ تناقُلِ كثيرٍ من كُتُبِ الأدبِ قصةَ صبيٍّ خطبَ
خُطبةً بليغةً أمامَ عمرَ بنِ عبدِ العزيز، أو قصةَ قائدٍ لجيشٍ جرّارٍ وهو لم
يبلُغ العشرينَ بعدُ، أو فقيرٍ اغتنى وصارت له تجارةٌ واسعةٌ ومالٌ كثير؟ ما
السِّرُّ في ذلك إلا أن يكون الذي قلته من أنَّ الشيءَ يُستغرَب ويُستطرَف ويَحلُو
إذا كان من غيرِ معدِنه ومن سوى موطنه؟!
فكثيرٌ
من الناس، بوعي منهم أو بدون وعيٍ منهم، يرَون أنَّ للبعيدِ على القريبِ فضيلةَ
البُعد! فالبُعدُ يُغطّي كثيرًا من الحقائق ويُنقّي كثيرًا من التفاصيل؛ حتى تبدو الأشياءُ
البعيدةُ أجملَ وأبهى، ولا يكون ذلك دائمًا للقريب؛ وهذا معنى قولهم:
"القُربُ حجاب". وللبارودي:
وَلِعَتْ بمَنطِقِها النُّفوسُ
غَرابةً
والنَّفسُ مولَعةٌ بكُلِّ
غَريبِ!
فإذا
ما جررنا الأمرَ إلى جوانبَ ثقافيةٍ وأدبيةٍ، لِمَ لا يكون في أبناءِ قريتِك، أو
بينَ طلابِ صفِّك إن كنتَ مُعلّمًا، أو في مسجدِ حيِّك، شُعراءُ ومثقَّفون
وعلماءُ، قد يفوق الواحدُ منهم في موهبتِه شاعرًا عاش هناك بعيدًا عند نهرٍ
وسُمِّي شاعرَ ذلك النهر، أو في بلادٍ بعيدةٍ فسُمِّي فيلسوفَها أو شيخَها.
ذَكَروا
أنَّ إسحاقَ الموصلي قال: أنشَدتُ الأصمَعِيَّ شِعرًا لي، على أنَّه لشاعِرٍ قديم:
هَلْ إلى نَظْرَةٍ إليكِ سَبيلٌ
يُبَلُّ منها الصَّدَى ويُشفى
الغَليلُ
إنَّ ما قَلَّ منكِ يَكثُرُ عندي
وكَثيرٌ من الحبيبِ القَليلُ
فقال
لي: هذا واللهِ الدِّيباجُ الخُسرواني! فقلتُ له: إنَّه ابنُ ليلتِه، فقال: لا
جَرَمَ أنَّ أثرَ التوليدِ فيه! فقلتُ له: لا جَرَمَ أنَّ أثرَ الحَسَدِ فيك!
وأيًّا
يكن دافعُ الأصمعي لذلك التناقض، إلا أنَّ المحليّة، مع المعاصرة، كانت — بلا شك —
سببًا في زهده في ما أبدعه الموصلي.
وإذا
كان القربُ حجابًا، وهو كذلك، فإنَّ الحِجابَ قد يُرفَعُ
فيُرى ما وراءه!
✿ ✿ ✿